Admin Admin
عدد المساهمات : 98 نقاط : 101789 تاريخ التسجيل : 24/10/2011 العمر : 32
| موضوع: الاجتهاد في الاسلام الإثنين فبراير 27, 2012 7:28 pm | |
| ضرورات التجديد ومجالاته التجديد ضرورة: لعل أهم التحديات التي تواجه حياة الأمم الإسلامية الآن هو تحدي التخلف، هذا التخلف يشمل مختلف صور حياتنا، ومن أوضح المجالات التي نلحظ فيها هذا التخلف هو مجال العلم والبحث العلمي بشكل عام، فرغم أن العالم يمر بالثورة الثالثة – ثورة المعلوماتية – فإن معظم الدول الإسلامية لم تنل حظاً وافراً من الثورتين الصناعية والتكنولوجية، لا نعرف من العلوم الحديثة إلا القدر اليسير، ولم نهضمها بعد، وإنما نردد بعض الأفكار عنها، ونحن ضيوف فيها على موائد الغرب إلى أكبر حد. وتشير إحصائيات حديثة إلى أن العالم الإسلامي يفقد يومياً قرابة الألف عالم، وهذا يعني أن من يتعلم منا تعليماً جيداً يفارقنا ويذهب إلى قوم آخرين في إطار ما يعرف بظاهرة هجرة العقول. ويجب أن نعترف أن البيئة التي نحياها حتى الآن لا تساعد على تكوين العالم، وإذا كونته، فإنها لا تستطيع الحفاظ عليه. البحث العلمي يسير في أطر تقليدية لا تساعد على تكوين الباحث، لا تنفق دولنا على البحوث العلمية إلا القدر اليسير، بل لا نبالغ إذا قلنا، إنها تخشى من العلماء لأنهم بالقطع سيغيرون الكثير من النظم وأساليب الحياة وأصول الحكم في الدول الإسلامية ويقاس تقدم أي مجتمع الآن بما حازه أفراده من العلوم الحديثة، لذا لا بد من تطوير التعليم في كل دولنا الإسلامية، وهذا التطوير يحتاج إلى إرسال البعثات في العلوم الحديثة وليس في العلوم الإسلامية أو في علوم اللغة العربية كما يحدث الآن في العديد من دولنا الإسلامية. إن كل الدول الآن – حتى المتقدمة – تسعى إلى تطوير برامج التعليم فيها لتواكب متغيرات العصر ولتشجيع النبوغ والإبداع، فلا شك أنه يوجد بداخل المجتمعات الإسلامية عناصر قوية، لديها من الملكات والقدرات ما تستطيع أن تستوعب به العلوم الحديثة، وتطورها، وتضيف إليها، ولكننا لم نتمكن حتى الآن من تشجيع النبوغ، ومن استخراج كنوز الأمة من البشر، لذا فيجب أن يتجه التجديد من حياتنا إلى التنمية البشرية في المحل الأول، لأنه ما لم يرتق الإنسان ويُعلم جيداً، فلا أمل في التنمية ، ولا أهمية للتجديد. مجالات التجديد: لاشك أن التعليم والبحث العلمي هو المجال الأول الذي يجب أن يتناوله التجديد كما وضحنا، ويجب أن يتناول التجديد كذلك التنمية البشرية بما يخرج لنا جيلاً مختلف الملامح، لا يغفر الأخطاء ولا يسامح، جيل يعرف الحق ويتبعه ولا يخاف فيه لومة لائم، جيل لا يأخذ من النفاق والزلفى أساساً للوصول إلى المناصب والمغانم وكل هذا يحتاج إلى إعداد جيد وتدريب طويل على نمط أخلاقي مختلف. كذلك إلى جانب تطوير التعليم وتنمية البشر، يجب أن يتجه تفكيرنا إلى إيجاد الأطر الشرعية والقانونية التي تزيل التحجر الذي واكب الفكر الإسلامي لفترة طويلة. ولعلني لا أرتكب خطأ إذا قلت إننا نحتاج إلى تجديد الفكر وتجديد الفقه. تجديد الفكر: يحتاج المسلم إلى تجديد الفكر الذي يعيش عليه ولن يتسنى ذلك إلا بإيجاد مناخ ثقافي وفكري جديد، إنك إذا جلست مع عشرة أشخاص في نفس اليوم فلن تسمع جديداً من أيِّ منهم، ستجدونهم يكررون نفس القول وغالباً ما يشكون لك من الحياة ومشاكلها، وإذا استمعت إلى عشرات المحطات التلفزيونية، فلن تجد جديداً تقدمه لك، ولن تجد محطة واحدة تحمل رسالة إعلامية تعبر عن عقل الجماهير ووجدانها، وترفع من شأن علمه وثقافته، إننا بالفعل نمر بمرحلة غريبة في حياتنا الفكرية والثقافية، ونحتاج إلى التجديد بشكل قوي في هذا المجال، لقد انتهى الصراع بين علي ومعاوية منذ وقت طويل، وآثر ورثة علي سلامة الأمة ووضع السلاح حتى لا تظل الدماء تسفك وحتى ينتهي الخلاف، ولكن الفكر الإسلامي لا زال يحمل آثار تلك الأزمة، ولا زال الصراع الفكري بين الشيعة والسنة يغرقنا في الأوحال حتى الآن، ونحتاج إلى التقارب والوحدة ونتحاور، دون فائدة حتى الآن، نحتاج إلى من يقول لهؤلاء المتصارعين كُفُّوا فلقد أنقذكم الله من هذا الصراع وكان له من ذاقوا وباله في الماضي، فلماذا نجدد الخلاف والصراع الآن؟ كذلك شهدت الدولة الإسلامية منذ وقت مبكر صراعاً مؤذياً حول قضية خلق القرآن، وانتهى هذا الخلاف الذي لا فائدة منه إلى غير رجعة، ومع ذلك لا زالت خلافات فكرية تحيط بنا من جراء هذه القضية. قضايا كثيرة خلافية يجب أن ننحِّيهَا جانباً من حياتنا الآن وبدلاً من ذلك يجب أن نحدد معالم الفكر الجديد الذي يواكب النهضة التي تعيش فيها الشعوب الأخرى الآن. إننا نحتاج إلى نقاش فكري يحدد أفضل الأساليب التي يجب أن نحكم وفقاً لها بما يستخرج إرادة الناس وتجعلهم يشاركون في قضايا مجتمعهم ويسيرون أمورهم بأنفسهم، نحتاج إلى وضع أسس للحكومة الإسلامية ولإعادة العلاقة بين الحاكم والمحكوم لتكون في أفضل صورها وليشعر كل مواطن بالولاء لدولته، دون أن نتصارع حول الخلافة من قريش والأئمة الذين يجب أن يكون الحكم والسيادة في أيديهم، فقد ولَّي هذا الزمن وتجاوزته كل أنظمة الحكم في هذا الكون، إننا نحتاج إلى إعادة بعث لنظامنا السياسي والاجتماعي لينهي الخلافات التي مزقتنا وشغلت أوقاتنا بما لا يفيدنا لحقب طويلة.
تكفير المجتمع: ومن الأفكار التي تسيطر على فريق منا، وتعود إلينا بأفدح الأضرار، الأفكار التي تنادي بتكفير المجتمع لأنه لا يحكم بما أنزل الله، ولأن الشهوات تسود فيه، أو بعبارة أخرى، تسود الجاهلية فيه. والواقع أن الانحراف ظاهرة موجودة في المجتمعات الإسلامية منذ وقت طويل، والجهر بالمعصية ظاهرة واضحة، ولكن بالمقابل توجد جماعات أخرى تتمسك بدينها وترفع راية الإسلام فيما تقوم به من أعمال، والأفضل هنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو ما يأمرنا به المولى جل جلاله في كتابه الكريم يقول تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ [النحل: 125]، كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون﴾ [آل عمران: 104]. إن تكفير المجتمع وتبرير الخروج عليه وعلى حكومته من الأمور التي جلبت على مجتمعاتنا شروراً كثيرة، وهي تخالف صريح نصوص ديننا القويم، حيث قضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يظل الخير والشر يتصارعان في حياتنا، ويجب على المجتمعات الإسلامية أن تقاوم قوى الشر، وأن تدعم قوى الخير دون استخدام السيف أو السلاح بالمعنى الواسع للوقاية من الفتنة، ولإحلال السلام والأمن في المجتمع حتى يتجه الأفراد إلى البناء لا إلى الهدم، إن تجديد الفكر الإسلامي يجب أن يتناول هذا البعد الفكري في العصر الذي نعيش فيه لكي ننقذ مجتمعاتنا مما يحاك بها من شرور توقف تقدمها، وتقضي على فئات من أفضل عناصر شبابها، ضلوا وأضلوا. التفسير الخرافي للظواهر: من العيوب السائدة في المجتمعات الإسلامية، شيوع التفسير الخرافي للأحداث، والتفسير الغيبي لأمور دنيوية واضحة، وللأسف لا زالت الصحف التي تصدر في بلادنا تطالعنا يومياً بما تطلق عليه "حظك اليوم" لتبين ما سوف يحدث لنا، كما أن العديد من حكامنا يلجؤون إلى العرَّافين ليطلعوهم على ما سوف يحدث لهم في مصائر الأمم كما كشفت عن ذلك تحقيقات جرت بعد الهزائم التي تعرضت لها دولنا في صراعها الدامي مع إسرائيل، على سبيل المثال. كذلك لازلنا نرضع أطفالنا أفكاراً تتضمن تفسيراً خرافياً لكثير من الظواهر والأحداث التي تحيط بنا، فرغم التقدم العلمي الكبير في اكتشاف الأمراض وما يقتضيه ذلك من عرض المريض على الأطباء، نجد البعض يفسر المرض على أنه مس من الجن، ويجري وراء من يعقدون جلسات الشعوذة لطرد الشيطان وإخراجه من الجسم، وتشاهد أحداثاً تؤدي إلى وفاة الشخص بدعوى أن من يضرب هو الشيطان الموجود داخل الجسم على سبيل المثال كذلك يسود بين صغارنا وكبارنا تفسيراً للشخصية على أساس البرج الذي تنتمي إليه وبزعم البعض في كتب تصدر أن هذا التفسير تفسيرٌ علميٌ لأن الشخص يرتبط في حياته وعمله بالبرج الذي ولد فيه. ويلعب المنجمون للأسف أدواراً هامة في مجتمعاتنا، يتم اللجوء إليهم لاستطلاع الغيب ومعرفة ما سيجري للإنسان في مستقبله، وهي أمور تخالف المنهج العلمي في التفكير وتجعلنا أسرى الجهل والخرافات. فكر الاتباع: من العيوب الأساسية التي تحتاج إلى التجديد في حياتنا، فكر الاتباع وأقصد به الانقياد للأفكار القديمة التي سادت في مجتمعاتنا تاريخياً وعدم وضعها في دائرة التمحيص، وأعني أكثر عدم اتباع المنهج الجدلي النقدي في قبول الحقائق، والتسليم لكل ما يقال، وهذه من آفات العقل في المسلم المعاصر. إننا نحتاج إلى عقلية مفكرة لا تقبل كل ما يأتي إليها، ولا ينتهكها أي فكر، وإنما تهضم وتناقش وتقبل أو ترفض وفق الأسس العلمية والفكرية السليمة التي تتكون بها. إننا نحتاج بالفعل إلى ثورة فكرية تعيد صياغة الطريقةِ التي تشكلت بها عقولنا، ودرجت عليها في البحث أقلامنا، طريقةِ الشرح على المتون، والتي نتجت عنها طريقة تلقين المعلومات. رفض الازدواج في النظر إلى العلوم: من أهم عناصر التجديد المطلوبة في الوقت الحاضر، القضاء على الازدواج الذي غلب علينا في فترة من فترات الضعف والذي جعل العلماء عندنا يفصلون بين علم ديني، وعلم دنيوي، يحتقرون العلوم المدنية أو الدنيوية، مع أن الفقه الإسلامي في سنوات نضجه لم يعرف هذا التمييز، بل اعتبر أن تعلم العلوم كلها مطلوب، واعتبر تعلم بعض العلوم المطلوبة لقيام الحياة، كتشييد المباني، وصناعة الطعام وأدواته، وكذا الملابس التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم، اعتبر هذه العلوم من فروض الكفاية التي يجب أن تتوافر دائماً في المجتمع اسلامي، إن العبادة في الإسلام تعني أداء أركان الإسلام، والقيام بالأعمال المطلوبة للحياة، والعمل الصالح في الإسلام له مفهوم دنيوي وآخر ديني في نفس الوقت، لذا فإن العلوم الإسلامية خسرت كثيراً بإهمال علوم الدنيا والاهتمام بعلوم الدين من تفسير وفقه وأحاديث فقط. إن الحضارة الإسلامية كانت دائماً عطاء نابضاً بالحياة وهي ثمرة تاريخ الأمة وإبداعها وعبقريتها، وهي تعني فن العمل وصناعة الأشياء بدقة، وفن التعامل مع الناس جميعاً والتعارف بين البشر أياً كان لونهم وجنسهم ودينهم وهي تحتاج إلى تصحيح النظرة إلى العلوم والمعارف والاهتمام بها جميعاً وعدم تمييز نوع على آخر. إننا نعيش في عصر سيطرت فيه القوة الأمريكية على مقدرات العالم ولم تعد هناك أسرار محجوبة، والسماوات أصبحت مكشوفة، وصار بإمكان الدولة الكبرى في العالم أن تعرف ما تريد أن تعرفه عن غيرها مهما أمعنت الدول الأخرى في الاحتجاب والسرية. ولا شك أن الحصول على المعلومات عن التقدم الصناعي والزراعي والإنتاجي بشكل عام صار سهلاً، وإن بقي فن التطبيق والتنفيذ تكتنفه صعوبات عديدة. ولما كان الإنسان يتأثر دائماً بما يحيط به من تقدم، بل إن ما يتم من تقدم إنما يكون نتيجة فكر وتجربة ومثابرة للوصول إليه، فإن تغيير نمط التفكير والتعليم السائد عندنا يعد مطلباً رئيسياً الآن قبل أي وقت مضى، ولا شك أن الثورة المعلوماتية كانت نتيجة تعليم مختلف عن ذي قبل، وثورة في البحث العلمي وفي استثمار نتائجه بشكل واسع عميق. وهذه التغييرات تحتاج من العالمَ الإسلامي أن يقوّم مكانه في العالم وينظر في مستقبله إزاء هذه التطورات. ولا نتجاوز الحقيقة إن قلنا إننا نعيش على هامش الحياة، ونستهلك مايقدم لنا، ولا بد لنا فيه، نستهلك، دون أن نستوعب، نستخدم دون أن نملك أو نطور. أعطانا الله ثروات نقدمها ونحصل على قدر يسير من ثمنها نستهلك به ما يقدم لنا، دون قدرة على الإحاطة به وسبر أغواره وإنتاجه وجعله يخدم ما نحتاج إليه. أعطانا الله عقولاً تمكننا من التفوق والتواصل مع تغيرات العصر، ولكننا لا نستخدمها بالشكل الكافي. كل ذلك مع أننا ورثة الحضارة، وأبناء العراقة، والخلاصة إننا نحتاج اليوم إلى التجديد بمعناه الواسع في أي مشروع حضاري تقوم به، هذا التجديد يجب أن يتناول التعليم والبحث العلمي، والأطر المساعدة لهما، يجب أن يتناول الفكر والفقه، وطريقة التفكير وأسلوب الحياة، والوسائل التي توصلنا بالمعلومات وبالتقدم المادي الصناعي والزراعي، إنه تجديد يرتبط بالحضارة وفنون العيش، وهو أمر ليس بغريب علينا، فلقد عشناه في فترات طويلة من حياتنا، والمشروع الحضاري يستهدف التجديد في إطار مقومات الحضارة وثوابت العقيدة والشريعة.
القسم الثاني الحفاظ على ثوابت الهوية الإسلامية لا يمكن لأي فكر تجديدي أن يمارس بدون الحفاظ على ثوابت الهوية الإسلامية، وإلا كان تجديداً فاسداً، واجتهاداً لا محل له. إن هناك –بمعنى آخر- قواعد كلية يجب الحفاظ عليها من قبل المسلمين، جماعة أو أفراد، ولعل القرآن الكريم ينبهنا إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكماتٌ هن أم الكتاب وأخر متشابهات﴾ [آل عمران: 7] فهذه الآيات المحكمات في الإطار الثابت الذي لا يجوز المساس به بحال، كما أنه هو الذي شكل ثوابت الحياة الإسلامية والشخصية الإسلامية على مر العصور. وسنتولى في هذا القسم من الدراسة استعراض هذا الإطار الكلي الثابت. أولاً: أركان الإسلام: بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، كما قال الرسول (ص). وهذا هو أهم إطار ثابت للهوية الإسلامية ولا يجوز بحال أن نناقش فرضية هذا الإيمان، وإن كان يجوز الاجتهاد في معرفة حكمة فرضية ومنافع القيام بها، وكثيرة هي الكتابات التي أوضحت حكمة قيام الإسلام على هذه الأركان. كذلك يجوز في باب الزكاة – أن تجتهد في بيان الأموال التي تجب فيها الزكاة وكيفية إخراجها الوجوه الواجب إنفاق الزكاة فيها، كما اجتهد عمر بن الخطاب وأبطل سهم المؤلفة قلوبهم، ويمكن كذلك الاجتهاد في مدى استمرار سهم "وفي الرقاب"، كذلك يمكن بحث مدى وجوب الزكاة على صور من الأموال الجديدة التي لم تكن معروفة وقت اجتهاد الفقهاء وعند نزول القرآن مثل أسهم الشركات المساهمة، وريع العمارات الكبيرة التي تبنى وتؤجر، وإضافة أنواع أخرى من السائبة، مثل النعام مثلاً، وهكذا بل تقول إن المجتهدين المسلمين يجب أن يقوموا بإعمال عقولهم واستخدام قواعد أصول الفقه كي يصنعوا الأحكام التي تعالج هذه المسائل الجديدة. ثانياً: الثوابت في الفكر الاقتصادي الإسلامي: استطاع فريق من مفكرينا في عصر الصحوة الإسلامية أن يجتهدوا في إنشاء مؤسسات إسلامية هامة، مثل البنوك الإسلامية، واجتهدوا كذلك في صبغ المعاملات التي تتم في هذه البنوك بالصبغة الإسلامية، ومن الطبيعي أن تحارب هذه البنوك لأنها تأتي على خلاف السائد في التعاملات الدولية، ولأنها تجعل المسلمين يمتلكون الأموال ويحركونها في العصور الحديثة، وهي مسائل لم يقبلها الاستعمار الغربي في أشكاله القديمة أو الحديثة، بل لم يقبل أن يكون العالم الثالث بكامله سوى دولاً مدينة، رغم أنها تنتج المواد الخام، وتستوعب الكثير من منتجاته. والتحديات في هذه المسائل قوية ومهيمنة، فإما اتباع المنهج الغربي في التفكير وفي الاستثمار وبالتالي في التبعية وإلا الحرب. لقد سقط نظام الفوائد الغربية الذي يخلق أموالاً بدون مقابل ويؤدي بذلك إلى التضخم وإلى خلق مشكلات كبيرة في النمو والاستثمار، ومع ذلك فمنا من يحاول مخالفة الثوابت الإسلامية هنا، ومهمة الثوابت الإسلامية هنا تتمثل في المحافظة على التمييز بين الحلال والحرام، وعدم استغلال الغير، وإذا كنت هنا لا أدخل في بحث فقهي في هذه القضايا المعقدة، إلا أنني أستطيع أن أشير إلى الثوابت التي يجب أن يحترمها أي مفكر وأي مجتهد: 1- أن يحترم القاعدة القرآنية الخاصة بحل البيع والشراء وتحريم الربا، حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطهُ الشيطانُ من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظةٌ من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ [البقرة: 275]. وبناء على ذلك يجب تحريم كافة النقود التي تقوم على الاستغلال بكافة صوره، ويجب أن تسود روح المودة والرحمة التي أشاعها الإسلام في كافة أحكامه والتي تتجلى في المعاملات في قواعد كثيرة مثل قاعدة ﴿وإن كان ذو عسرةٍ فَنَظِرةٌ إلى ميسرةٍ وأن تصدقوا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون﴾ [البقرة: 280]، وقاعدة حقوق المسلمين جميعاً في الحصول على قدر من الثروة التي تتواجد في الجماعة إعمالاً لقوله تعالى بشأن توزيع الثروة والمال: ﴿كي لا يكون دُوْلَةً بين الأغنياء منكم﴾ [الحشر: 7]. 2- وجود حقوق ثابتة للفقراء في أموال الأغنياء إعمالاً لقوله تعالى: ﴿وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم﴾ [الذاريات: 19]. وتوجد قواعد محددة في الشريعة لتوزيع أموال الأغنياء على الفقراء المحتاجين بسهام محددة، وفي وجوه معينة كما هو ثابت في الشريعة. 3- كذلك يجب أن يتميز الاجتهاد في مجال المعاملات بقواعد شرعية أساسية مثل قاعدة ((المسلمون عند شروطهم إلا شرط أحل حراماً أو حرم حلالاً)). وقاعدة ((الحكم على الشيء خرج عن تصوره))، إن المجتهد في مجال الفقه واستنباط الأحكام الشرعية يجب أن يكون دقيقاً للغاية ولا يتسرع في استنباط حكم شرعي إلا بعد الإلمام بكل ما يتصل به وبكافة وجوهه، كما أن تجنب الشبهات من المسائل الأساسية التي تحكم المجتهد إعمالاً لقوله: (الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام). 4- كذلك تقوم المعاملات الإسلامية على قواعد هامة مثل تحريم الاكتناز وضرورة تداول المال بين الجماعة حتى تستفيد منه مختلف طوائف الأمة، ومطلوب من المجتهدين أن يستنبطوا قواعد جديدة تحكم توزيع ثروة النفط بين المسلمين جميعهم، والاستفادة منها في خدمة الجماعة الإنسانية. التكامل الاقتصادي: إننا إذا كنا نتحدث عن الثوابت الإسلامية التي تحافظ على الهوية في المجال الاقتصادي، فإننا يجب ألا ننسى أن المشكلات التي تحيط بالأمة كبيرة جداً في هذا المجال – وهناك قواعد أساسية ترتبط بالهوية تتطلب الكثير مما لم نفعله حتى الآن، إن الإسلام يأمرنا بأن نتحد، ويمنعنا من الفرقة، وهو أمر يحتاج إلى أن ندخل في أشكال قضائية وتوحدية تلائم روح العصر، نحن في عصر التكتلات الاقتصادية المختلفة والتي ارتقت بالإنتاج في الدول التي أخذت بها – كالاتحاد الأوروبي – إلى حد كبير، وهي أقل مما يطلبه الإسلام من المسلمين، يقول الله تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون﴾ [آل عمران: 103]. كذلك سيدخل الاقتصاد لمختلف الدول الإسلامية في مراحل ندرة المياه، ونهاية عصر النفط، ويجب على المسلمين أن يجتهدوا لإيجاد الوسائل لمواجهة هذه المشكلات. ثالثاً: الثوابت الحضارية للأمة: ولعل من أخطر ما يواجه الهوية الإسلامية والسمات الأساسية المميزة للأمة الإسلامية في المرحلة المقبلة، هي مشكلة العولمة كما ذكرنا، والاجتهاد الواجب بذل لمواجهتها يجب أن يتسع لتقوم به مختلف المنظمات والمؤسسات الدولية الإسلامية فضلاً عن الجامعات. إذا كان علينا أن نفتح السماوات لاستقبال العلوم والثقافة والمعارف، بل والترفيه أحياناً، إلا أننا في هذا الجانب مغبونون ويجب أن نوقف الغبن الذي نتعرض له، إن هذا الاستقبال يحمل ثقافة وفكراً آخر يحاول أن "يهمش" الشخصيات التي تستقبله، ويجعلها أداة طيعة في يده، إنه تغليب إرادة على إرادة، وثقافة على ثقافة، وهي هدف الحروب التي تتم الآن بوسائل أخرى، أسهل وأقل سفكاً للدماء، وأسهل في التسرب إلى العقول والقلوب دون أن تجد مقاومة تذكر. لذا فإن جهداً كبيراً يجب أن يبذل في المقاومة، وفي ترتيب أمور الفكر والثقافة والحضارة الإسلامية لمواجهة هذا الزحف، إن الأمة الإسلامية بها قيادات فكرية قادرة على التعبير عن الفكر والحضارة الإسلامية، ولكن تعوزها الوسائل للوصول إلى الأجهزة وإلى المجالات التي يجب أن تعمل فيها، لكن آن الأوان لتبذل جهود كبيرة في سبيل حماية اللغة العربية وإظهار ذخائرها وتعريب مختلف العلوم، إنه لا سبيل إلى حماية التراث إلا بالاهتمام باللغة وعاء الدين، والعقيدة والحضارة كذلك، إن المسؤولين عن المحطات الفضائية دولاً وشركات وأفراداً عليهم أن يشاركوا في إنتاج أعمال علمية وإعلامية تعبر عن تاريخ الأمة وقيمها منابع حضارتنا، لقد استطاع كتّاب مثل: مصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات والكواكبي وطه حسين وغيرهم وغيرهم أن يكتبوا أعمالاً من صميم التراث الإسلامي وهي جهود لا نجد مثلها كثيراً الآن، وهي مطلوبة بشدة في زمننا الحاضر بعد أن تملكنا العديد من القنوات والمحطات الفضائية، لكن للأسف، لا يوجهها رجال يعرفون الله ويتقونه، إن تخلف الرسالة الإسلامية الإعلامية تحتاج إلى جهود جبارة لإعادة النظر فيها وتوجيهها لحماية ثقافة الأمة وإخراج كنوزها وبثها في كافة وسائل الإعلام. رابعاً: الثوابت في تطوير التعليم: وإذا كنا نعى التخلف في مجال التعليم، ونطمح إلى وضع برامج لتجاوز التخلف، إلا أن هناك ثوابت نكاد نهملها بالمرة فليس تعلم اللغة الأجنبية لأطفالنا منذ نعومة أظفارهم هو أسلوب الرقي في التعليم، بل أن تكون السمة الإسلامية للطفل المسلم التركيز على لغته العربية وثقافته الإسلامية في السن المبكرة مع الاهتمام بتعلم لغة أجنبية بعد ذلك. كذلك تحتاج إلى أن يظل الطالب – مهما كان تعليمه – على صلة بمصادر عقيدته وثقافته وحضارته، وتدريس مناهج طوال فترات دراسته تؤكد هذه الصلة، إنني من فوق منبر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية أطالب بتدريس مقرر إجباري للغة العربية والحضارة الإسلامية في كل الجامعات الموجودة في العالم الإسلامي، ويجب أن تتضافر جهود العلماء والخبراء في التعليم على صياغة مناهج هذه المواد ووضع المحتويات التي تحقق أهداف الأمة. كما إننا نحتاج إلى الاجتهاد العلمي لقيادة مشروع التعليم في بلادنا في كافة النواحي العلمية مع مراعاة الآتي: 1- إقامة تعاون قوي بين كل الجامعات في العالم الإسلامي كي تستفيد كل جامعة مما تحققه الأخرى من تقدم وإباحة كل ما ينجز من عمل علمي لكي يكون أمام كل العلماء والباحثين في كل الدول الإسلامية. إن وسيلة البحوث المشتركة بين كل الجامعات وسيلة يجب أن نسارع بتحقيقها بشكل عاجل، كما إن التعاون في مجال النشر المشترك من أهم ما يجب أن تقوم به بشكل عاجل. 2- يجب تنقية المناهج من كل ما يتعارض مع حقائق الدين، ويخالف أصول العقيدة – كالقول بأن الطبيعة هي التي خلقت الحياة أو تبدل "داروين وفرويد" في تفسير وجود الإنسان، وتطور نشأته، وغرائزه وحاجاته… الخ. 3- التعاون في تعريب العلوم خاصة العلوم الطبية والهندسية وسائر العلوم التي لم تعرب حتى الآن. 4- إقامة تعاون وثيق بين جامعات العالم لتحقيق الاستفادة المتبادلة من كل وجوه الإنجازات والتقدم العلمي. 5- يجب إحياء إسهامات العلماء المسلمين في مختلف المجالات والتكملة عليها وإيجاد اجتهادات في مجالات يحتاج العالم إلى الاجتهاد الجديد فيها، مثل مجالات الطب البديل وإيجاد عقاقير من الطب النباتي الذي نجح المسلمون في التعامل به وعلاج مختلف الأمراض بها. وفي الواقع إن هذه المسألة من أهم المسائل التي نحتاج إليها للتأكيد على شخصية الأمة والاعتزاز بتراثها والتكملة عليه بعد أن أهملناه كثيراً، وعشنا فقط ننتظر ما يقدمه الغرب لنا لنأخذه دون هضم، ودون تقديم إضافة تذكر، حتى صرنا مستهلكين لكل شيء ولا ننتج شيئاً له قيمة. خامساً: القيم العليا في المنهج الإسلامي: إننا ونحن نتحدث عن التجديد، لا بد لنا أن نتذكر أن الإسلام يقيم منهجاً للحياة لا تستقيم الأمور بتجاهله وإذا بعدنا عنه فشلنا، يجب أن نعض بالنواجذ على ما جاء في القرآن الكريم وفي سنة نبيه (ص)، وكما يجب أن نركز على الجانب العملي من العقيدة والشريعة والذي أخرج للعالم أمة قوية ذات أخلاق. إن ما يميز الإسلام والحضارة الإسلامية، الجانب المعنوي فيها، ذلك الجانب الذي يخاطب الروح والقلب والنفس ويهديها إلى صراط العزيز الحميد، إن هذا الجانب يجب ألا ننساه أبداً ونحن نقدم اجتهاداتنا للعالم، لأنه هو الذي يميزنا عن غيرنا. لقد بعث الله النبي (ص) برسالة خاتمة جعلت للمسلمين العقل الجديد الذي وضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل وجعلهم ينبعثون من حدود دينهم وفضائله لا من حدود أنفسهم وشهواتها، وإنهم إذا سلوا السيف سلوه بقانون، وإذا أغمدوه، أغمدوه بقانون، إنهم تقدموا في الدنيا حاملين السلام والأخلاق فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم، وبذلك فإن أسلحتهم نفسها ذات أخلاق. لقد اندفع الدين الإسلامي بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة الجرداء، طبيعة تعمل في طبيعة إننا لا ينبغي أن نفهم متاع الدنيا بفكرة الحرص عليه والحاجة إلى حلاله وحرامه، ومن ثم نندفع إلى الدنيا ونتكالب عليها، وإنما فهم المسلمون دائماً متاع الدنيا بفكرة الاستغناء عنه والتمييز بين حلاله وحرامه، لقد أوجد النبي (ص) أمة طبيعية بفطرتها كأن عملها في الحياة إيجاد الأفكار العملية الصحيحة التي يسير بها العالم. (1) إننا أصحاب رسالة وحاملوا دعوة للناس جميعاً لهدايتهم إلى معرفة الإله الواحد والسمو بالنفس الإنسانية وتعويدها الضبط، وعمل صلة وثيقة بين الأرض والسماء لمعرفة الخالق والخشوع له ومعرفة حلاله وحرامه وبذل النفس في سبيل رفعة الإنسانية ورقيها وإخراجها من الظلمات إلى النور، إننا نسعى إلى بث قيم عليا في حياة البشر تقوم على احترام العدالة والإنصاف ونصرة المظلوم وتحقيق المساواة بين الناس والتراحم بينهم وسيادة التكامل الاجتماعي بين الناس والتجديد يحتاج إلى إحياء هذا الفكر في حياتنا المعاصرة، وإنقاذ العالم الذي نعيش فيه من ظلمات الضلال والجهل والفتنة. إن العالم الذي نعيشه تجتاجه رياح عاصفة تجعل القوة هي المعيار الحقيقي للتميز وتجعل حيازة هذه القوة هي هدف الحياة، وعلى حساب كل شيء، مما يهدد الحياة على هذه الأرض، لذا فإن رسالتنا هي إبدال ذلك بعناصر معنوية تعلو بالإنسان وباهتماماته وتجعل متطلباته تتصل بتحسين الحياة على الأرض، وابتغاء وجه الله والآخرة في كل ما نقوم به من أعمال.
خاتمة: تحتاج المجتمعات الإسلامية إلى التجديد في كافة نواحي الحياة، تجديد الفكر والفقه والعلم والسلوك، فلا بد من التسليم بأن التخلف والفرقة هي أوضح السمات التي تميزنا الآن، ولقد أوضح البحث أن التجديد يجب أن يشمل الاجتهاد في الفقه الإسلامي لوصل ما انقطع من قانون الأمة، ومواصلة استنباط الأحكام التي تحكم المشكلات المستجدة والمستمدة في حياتنا. ومع ذلك فقد أوضحنا أننا نحتاج إلى الحفاظ على الهوية الإسلامية في إطار هذا التجديد، وتستمد الهوية الإسلامية مصادر الحفاظ عليها من القرآن والسنة واللغة والحضارة الإسلامية، وقد أوضحت هذه الأوراق أننا في حاجة ماسة إلى إخراج القيم العليا والمثل التي شكلت الشخصية الإسلامية من هذه المصادر، كما أثبتت ذاتية الحضارة الإسلامية روحية ونفسية تهتم بالارتقاء بالإنسان وتهذيب سلوكه ورفع معنوياته وكلها أسس تفتقدها الحضارة الغربية وتحتاج إليها بشكل قوي. إننا نحتاج إلى بعث تراثنا العلمي والفكري وأن نواصل البحث فيه وتكملته، كما أننا نحتاج إلى ضبط السلوك الاقتصادي للعالم المتردي بالثوابت الإسلامية التي تحقق عدالة التوزيع وسلامة العامل الاقتصادي كما أثبتت الأوراق أهمية الوحدة الاقتصادية في الحياة المعاصرة. وأخيراً أثبتت الأوراق أهمية رفع راية الحضارة الإسلامية في مواجهة العولمة ومحاولة تذويب السمات الإسلامية، وعاءُ هذه الحضارة اللغةُ العربية التي أهملت بيننا الآن إهمالاً شديداً، وكذا نادينا بجعل اللغة تدرس إجبارياً في كل مراحل التعليم الجامعي، وكذلك أوضحنا أهمية أن يظل الطالب على صلة بأصول العقيدة والشريعة والثقافة الإسلامية في كل مراحل تعليمه، وهو مطلوب من الإنسان المسلم في كل مراحل حياته. والله ولي التوفيق وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
| |
|
ادم المبدع
عدد المساهمات : 347 نقاط : 10793 تاريخ التسجيل : 06/02/2012 العمر : 28 الموقع : الامارات العربيه المتحده
| |
عبدربه المبدع
عدد المساهمات : 245 نقاط : 10818 تاريخ التسجيل : 26/11/2011 الموقع : وادي الذئاب..
| موضوع: رد: الاجتهاد في الاسلام السبت مارس 17, 2012 11:50 pm | |
| | |
|